سورة لقمان - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (لقمان)


        


قلت: {هُدىً ورحمةً}: حالان من الآيات، والعامل: معنى الإشارة. ورفعمها حمزة على الخبر لتلك بعد حبر، أو: خبر عن محذوف، أي: هو، أو: هي هُدى. والموصول: نعت للمحسنين؛ تفسير لإحسانهم، و{هم}: مبتدأ، و{يُوقنون}: خبر. وتكريره الضمير؛ للتوكيد، ولِمَا حيل بينه وبين خبره.
يقول الحق جل جلاله: {الام}؛ أيها المصطفى المقرب، {تلك} الآيات التي تتلوها هي {آياتُ الكتابِ الحكيم} أي: ذي الحكمة البالغة، أو: الذي أُحكمت آياته وأُتقنت، أو: المحكَم الذي لا ينسخه كتاب. أو: المصون من التغيير والتبديل. حال كونه {هُدىً ورحمةً}؛ هادياً لظواهرهم بتبيين الشرائع، ورحمة لقلوبهم بتبين حقائق الإيمان، ولأرواحهم بإظهار حقائق الإحسان. وقد تقدم هذا البيان في قوله: {إِذَا مَا اتقوا وَآمَنُواْ} [المائدة: 93] الآية. ولذلك خصه بقوله: {للمحسنين}، فإنما يكون هدى ورحمة لأهل الإحسان؛ لأنهم هم الذين يغوصون على أسراره ومعانيه. وهم {الذين يقيمون الصلاة}؛ يتقنونها، {ويؤتون الزكاة} على الوجه المشروع، ويدفعونها لمن يستحقها، لا جزاءً ولا شكوراً، ولا لجلب نفع أو دفع شر، {وهم بالآخرة هم يوقنون}، كأنها نُصْبَ أعينهم. وخص بالذكر هذه الثلاثة؛ لفضلها؛ فإن الصلاة عماد الدين، والزكاة قرينتها؛ لأن الأولى عبادة بدنية، والثانية مالية، والآخرة هي دار الجزاء، فلولا وقوعها لكان وجود هذا الخلق عبثاً، وتعالى الله عنه علواً كبيراً.
ثم مدح المتصف بتلك الخصال فقال: {أولئك على هُدىً من ربهم} أي: راكبون على متن الهداية، متمكنون منها، {وأولئك هم المفلحون}، الفائزون بكل مطلوب.
الإشارة: قال القشيري: {الام}، الألف إشارة إلى آلائه، واللام إلى لطفه، والميم إل مجده وسنائه، فبآلائه دفع الجَحْدَ عن قلوب أوليائه، وبلطف عطائه أثبت المحبةَ في أسرار أصفيائه، وبمجده وسنائه هو مستغنٍ عن جميع خَلْقِه بوصف كبريائه. اهـ.
ثم وصف كتابه بأنه هاد للسائرين، رحمة للواصلين؛ إذ لاتكمل الرحمة إلا بشهود الحبيب، يكلمك ويناجيك، وهذه حالة أهل مقام الإحسان. قال القشيري: وشَرْطُ المحْسِنِ أن يكون محسناً إلى عباد الله: دانيهم وقاصيهم، مطيعِهم وعاصيهم. ثم قال: {الذين يُقيمون الصلاة}؛ يأتون بشرائطها في الظاهر- ثم ذكرها-، وفي الباطن يأتون بشروطها؛ من طهارة السَّرَّ عن العلائق، وسَتْرِ عورة الباطن، بتنقيته من العيوب؛ لأن ما كان فيه فالله يراه. فإذا أرَدْتَ أن لا يرى اللهُ عيوبَك فاحْذَرْها حتى لا تكون. والوقوف على مكان طاهر: هو وقوف القلب على الحدِّ الذي أُذن فيه، مما لا يكون فيه دعوى بلا تحقيق، بل رَحِمَ الله مَن وقف عند حدِّه بالمعرفة بالوقت، فيعلم وقت التذلُّل والاستكانة ويميز بينه وبين وقت السرور والبسط، ويستقبل القبلة بَنْفسِه، ويعلق قلبه بالله، من غير تخصيص بقطْرِِ أو مكان {أولئك على هدى من ربهم}؛ وهم الذين اهتدوا في الدنيا، وسَلِموا ونَجوْا في العُقْبَى. اهـ.


يقول الحق جل جلاله: {ومن الناس من يشتري لَهْوَ الحديث} أي: ما يلهى به عما يقرب إلى الله؛ كالأحاديث التي لا أصل لها، والخرافات التي لا حقيقة لها، والمضاحك، وفضول الكلام. قيل: نزلت في النَّضر بن الحارث، كان يخرج إلى فارس للتجارة، فيشتري أخبار الأعاجم، ثم يُحدث قريشاً بها، ويقول: إن محمداً يُحدثكم بأخبار عاد وثمود، وأنا أحدثكم بحديث رُسْتُم، وأخبار الأكاسرة، فيستملحُون حديثه ولا يسمعون القرآن. وقيل: كان يشتري القيان، ويحملهن على معاشرة من أراد الإسلام؛ ليصده عنه.
والإشتراء من الشراء، كما تقدم عن النضر، ومن البدل، كقوله: {اشتروا الكفر بالإيمان} [آل عمران: 177]. استبدلوه واختاروه، أي: يختار حديث الباطل على حديث الحق. وإضافة اللهو إلى الحديث، للتبيين بمعنى من؛ لأن اللهو يكون من الحديث ومن غيره، فيبين بالحديث، والمراد بالحديث: الحديث المكروه، كما جاء في الحديث: «الحديث في المسجد يأكل الحسنات، كما تأكل البهيمة الحشيش»، أو: للتبعيض، كأنه قيل: ومن الناس من يشتري بعض الحديث الذي فيه اللهو. وقال مجاهد: يعني: شراء المغنيات والمغنيين، أي: يشتري ذات لهو، أو ذا لهو الحديث. وقال أبو أمامة: قال عليه الصلاة والسلام: «لا يحل تعليم المغنيات، ولا بيعهن، وأثْمانُهنَّ حرام» وفي مثل هذا نزلت هذه الآية، ثم قال: «وما من رجل يرفع صوته بالغناء إلا بعث الله عليه شيطانين: أحدهما على هذا المنكب، والآخر على هذا المنكب، فلا يزالان يضربان بأرجلهما حتى يسكت».
قلت: هذا مقيد بِشِعْرِ الهوى لأهل الهوى، وأما أهل الحق الذين يسمعون من الحق، فلا يتوجه الحديث لهم، وسيأتي في الإشارة تحقيقه إن شاء الله. ثم قال أبو أمامة رضي الله عنه عَنْهُ صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى بعثني هدةى ورحمة للعالمين، وأمرني ربي بمحو المعازف والمزامير والأوثان، والصلب وأمر الجاهلية، وحلف ربي بعزته لا يشرب عبد من عبيدي جرعة خمر متعمداً إلا سقيته مثلها من الصديد يوم القيامة، مغفوراً له أو معذباً، ولا سقاها غيره إلا فعلت به مثل ذلك، لا يتركها عبد من مخافتي إلا سقيته من حياض القدس يوم القيامة» انظر الثعلبي.
ثم قال تعالى: {ليضل عن سبيل الله} أي: فعل ذلك لِيَضل هو عن طريق الله ودينه، أو ليُضل غيره عنه، أو عن القرآن، {بغير علم} أي: جهلاً منه بما عليه من الوزر. {ويتخذها} أي: السبيل {هُزُواً} وسخرية. فمن رفع: استأنف، ومن نصب، عطفها على {ليضل}، {أولئك لهم عذاب مهين} يُهِينُهم ويخزيهم، و{مَنْ}، لإبهامه، يقع على الواحد والجمع، والمراد: النضر ومن تبعه.
{وإذا تُتلى عليه آياتنا وَلَّى مُستكبراً}؛ أعرض عن تدبرها متكبراً رافعاً نفسه عن الإصغاء إلى القرآن، {كأن لم يَسْمَعْهَا}؛ كأنه لم يسمعها، ولا ذُكرت على سمعه. شبَّه حاله بحال من لم يسمعها قط، {كأنَّ في أذنيه وقراً}؛ ثَِقَلاً وصمماً، {فبشره بعذابٍ أليم}؛ أَخْبِرْه بأن العذاب يُوجعه لا محالة. وذكر البشارة على سبيل التهكم. وهذا في مقابلة مدح المحسنين المقيمين المزكين. فكما قال في المحسنين: {أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون}، قال في هؤلاء: {أولئك لهم عذاب مهين}، بعد أن وصفهم بالضلال والإضلال، في مقابلة المحسنين بالهداية والفلاح. والله تعالى أعلم.
الإشارة: لهو الحديث هو كل ما يشغل عن الله، ويصد عن حضرة الله، كائناً ما كان، سواء كان غناء أو غيره، وإذا كان الغناء يهيج لذكر الله، ويحرك الروح إلى حضرة الله، كان حقاً، وإذا كان يحرك إلى الهوى النفساني كان باطلاً. والحاصل: أن السماع عند الصوفية ركن من أركان الطريقة، بشروط الثلاثة: الزمان والمكان والإخوان. وقد ألف الغزالي تأليفاً في تكفير من أطلق تحريم السماع. وقال في الإحياء، في جملة من احتج به المُحَرِّمُ للسماع: احتج بقوله تعالى: {ومن الناس من يشتري لَهْوَ الحديث}، وقد قال ابن مسعود والنخَعي والحسن: إنه الغناء. وأجاب ما حاصله: أنه إنما يحرم إذا كان استبدالاً بالدين، وليس كل غناء بدلاً عن الدين، مُشْتَرَىً به، ومضلاً عن سبيل الله، ولو قرأ القرآن ليضل عن سبيل الله كان حراماً. كما حكي عن بعض المنافقين؛ أنه كان يؤم الناس ولا يقرأ إلا بسورة عبس، لما فيها من العتاب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهَمَّ عمرُ بقتله. فالإضلال بالشعر والغناء أولى بالتحريم. اهـ. وأما إن لم يكن شيء من ذلك، فلا يحرم.
وقال في القوت، في كتاب المحبة: ولم يزل الحجازيون، عندنا بمكة، يسمعون السماع في أفضل أيام السنة، وهي الأيام المعدودات، التي أمر الله عز وجل عبادَه فيها بذكره، أيام التشريق، من وقت عطاء بن أبي رباح، إلى وقتنا هذا، ما أنكره عالم، وكان لعطاء جاريتان تُلَحِّنانِ، فكان إخوانه يستمعون إليهما، ولم يزل أهل المدينة مواطئين لأهل مكة على السماع إلى زماننا هذا. وأدركنا أبا مروان القاضي، له جوار يسمعن التلحين، قد أعدهن للطوافين. فكان يجمعهن لهم، ويأمرهن بالإنشاد، وكان فاضلاً. وسئل شيخنا أبو الحسن بن سالم، فقيل له: إنك تنكر السماع، وقد كان الجنيد وسري السقطي وذو النون يسمعون؟ فقال: كيف أنكر السماع وقد أجازه وسمعه من هو خير مني. اهـ.
وقال ابن ليون التجيبي في الإنالة: رُوي عن مصعب بن الزبير، قال حضرت مجلس مالك، فسأله أبو مصعب عن السماع، فقال: ما أدري، إلا أن أهل العلم ببلدنا لا ينكرون ذلك، ولا يقعدون عنه، ولا ينكره إلا غبي جاهل، أو ناسك عراقي غليظ الطبع.
قال التجيبي: وعن أنس؛ كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ نزل عليه جبريل، فقال: يا رسول الله فقراء أمتك يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام، وهو نصف يوم، ففرح فقال: أفيكم من ينشدنا؟ فقال بدوي: نعم، يارسول الله، فقال: هات، هات، فأنشد البدوي يقول:
قَدْ لَسَعَتْ حَيَّةُ الهَوى كَبِدِي *** فَلاَ طَبِيبٌ لَهُ وَلاَ رَاقِي
إلاَّ الحَبِيبُ الَّذِي شُغِفْتُ بِهِ *** فَعِنْدَهُ رُقْيَتِي وتِرْيَا قِي
فتواجد عليه السلام، وتواجد أصحابه معه، حتى سقط رداؤه عن مَنْكِبَيْهِ، فلما خرجوا أوى كل واحد إلى مكانه، فقال معاوية: ما أحسن لَعِبَكُمْ يا رسول الله! فقال: «مَهْ، مَهْ، يا معاوية، ليس بكريم من لم يهتز عند ذكر الحبيب» ثم اقتسم رداءه من حضرهم بأربعمائة قطعة. وذكر المقدسي هكذا، والسهروردي في عوارفه، وتكلم الناس في هذا الحديث.
وقد تخلف الحسن البصري ذات يوم عن أصحابه، وسئل عن تخلفه، فقال: كان في جيراننا سماع. وقال الشبلي: السماع ظاهرة فتنة وباطنه عبرة. فمن عرف الإشارة حلَّ له سماع العبرة وإلا فقد استدعى الفتنة. اهـ. والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: {وإذا تُتلى عليه...} إلخ، هذا مثال لمن يَقبل الوعظ؛ لقسوة قلبه وحُكم المشيئة يُبعده، فلا يزيده كثرة الوعظ إلا نفورً، فسماعه كلا سماع، ومعالجته عنىً وضياع، كما قال القائل:
إذَا أَنَا عَاتبتُ المُلولَ فإِنَّمَا *** أخُط بأفلك على الماء أَحرُفَا


يقول الحق جل جلاله: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحت لهم جناتُ النعيم}، قيل: معكوس، أي: لهم نعيم الجنات، أو: لهم بساتين، أو: ديار النعيم. {خالدين فيها}: حال من ضمير لهم. والعامل: الاستقرار. {وَعْدَ الله حقاً} أي: وعدهم ذلك وعداً، وثبت لهم حقاً مُهماً، مصدران مؤكدان، الأول لنفسه، والثاني لغيره، إذ قوله: {لهم جنات النعيم}؛ في معنى: وعدهم الله جنات النعيم: {وحقا}: يدل على معنى الثبات المفهوم من انجاز الوعد. {وهو العزيزُ} الغالب، الذي لا يُعارَض في حكمه، فينفذ وعده لا محالة. {الحكيمُ} الذي لا يفعل إلا ما استدعته حكمته.
الإشارة: إن الذين آمنوا في البواطن، وحققوا ذلك بالعمل الصالح في الظواهر، لهم جنات المعارف معجلة، وجنات الزخارف مؤجلة، وعداً حقاً وقولاً صدقاً، فما كَمُنَ في السرائر ظهر في شهادة الظواهر، وإلا كان دعوى ونفاقاً، والعياذُ بالله.

1 | 2 | 3 | 4 | 5